بعد تخرجي بدأت في فهم مشاعر المصاب بالأنوركسيا، وأفكاره وسلوكياته اليومية التي لا يلاحظها الجميع.

والصور النمطية التي كسبها من بيئته؛ قد تكون بسبب الأساليب التربوية الخاطئة التي تربى على أنها صحيحة، أو بسبب تأثره من الاطلاع المستمر لـ«تصوير الوسائل الإعلامية لمظهر الناجحين»؛ لأن الإعلام الحديث يصور النجاح على مقاييس غير واقعية! .. قررت أن أبدأ في رحلة التعرّف على «الأنوركسيا» من منظور آخر، كمختص نفسي.

رأيت أنه من المهم جدًا أن لا أكتفي فقط بمعرفة الأعراض الخاصة للاضطراب من خلال (DSM-5) والدراسات الحديثة، أو العوامل المساعدة وكيفية نشأته والأسباب المؤدية له، وحتى المضاعفات الصحية الناتجة عنه، والطرق العلاجية «الحلول السلوكية والمعرفية».

المشهور صاحب النجاحات الكبيرة هو ذلك النحيف والرشيق فقط؛ أو حتى للأسباب التي قد تكون بسبب تعرّضه للتنمر في بداية حياته، ورسّخت فيه أفكارًا نمطية تخص مقاييس الجسم المثالي، أو للصدمة الناتجة عن الاعتداء الجنسي (تحرش / اغتصاب) ويكون على إثرها نزول حاد في الوزن لتقليل جاذبيته، حتى لا يتعرض لموقف مشابه لما حصل له في الماضي.

وباعتقادي أيضًا قد يحاول جاهدًا الوصول لصورة نمطية يعتقدها «صديقه المفضّل» بأنها هي الكاملة والمثالية، وإذا وصل لها سيكون راضيًا تمامًا عن هيئته وحياته.

قبل أن أذكر لكم بعضًا من السلوكيات، والأفكار والمشاعر التي يعيشها مصاب الأنوركسيا خلال يومه.

أود التنويه على بعض النقاط:

أنا ضد الترجمة العربية للأنوركسيا «فقدان الشهية العصبي»؛ لأن المصاب بالأنوركسيا لا يفقد شهيته، بل يقاومها!

وأرى بأنه يرسّخ صورة الاضطراب بطريقة خاطئة.

حالات الأنوركسيا تختلف؛ ليسوا جميعهم بنفس شدّة الأعراض ودرجة خطورتها.

ما سأكتبه؛ هي حالة تمر لمعظم المصابين، وقد تستمر لوقت طويل عند البعض، وليست بالضرورة تكون دائمة التكرار.


مفهوم المثالية يختلف من مصاب إلى آخر!

فمثلًا؛ المثالي بالنسبة للكثير من الحالات هو «العظام» فقط، بعيدًا عن المعايير الجمالية عند المجتمع.


شعور الغضب والاشمئزاز الذي يرافقك وأنت تحت بطانيتك، تتمنى لو أنك لم تجعل ذلك الأكل يلامس شفتيك.

تود بأن تنام نومة مريحة وطيبة، ولكن لا تستطيع!

بسبب صراخ معدتك المستمر طوال اليوم؛ الذي لا تهتم له، «لقد حرمتني».

الأفكار المزعجة تجعلك تبقى مستيقظًا حتى قبل موعد الذهاب إلى الدوام، وفجأة تنام بسبب الإرهاق الكبير الذي شعرت به.

(الإعياء بعد التقيء عمدًا / ألم العضلات بعد التمرين الشاق)

وبعدها بساعات قليلة تتفاجَأ بأن صوت المنبه يتّحد مع صوت معدتك العالي.

هيا استيقظ!

معدتك تخبرك بأنه «حان موعد الإفطار» وعقلك ينبّهك بـ«حان موعد الذهاب من جديد للدوام»، وأنت لا تنصت إلّا لصوت أفكارك، التي تجعلك تشعر بالسوء أكثر فأكثر.

اليوم سيكون يومًا رائعًا، وغدًا ستكون الأمور على ما يرام.

لكن سرعان ما ترى بأن ذلك غير صحيح إطلاقًا من شدّة إحاطة الأفكار غير الآمنة؛ التي تعيق نظرتك للجانب الواقعي، لجانب الحلول، لإشباع رغبة معدتك الحزينة.

تفكر لوهلة بأنك لم تنم كفايتك بالليلة السابقة، لم تأكل جيّدًا، تشعر بالإعياء!

«لأنك طهرت ما أكلته، ما كان يحتضن معدتك».

وبعد قيامك من سريرك، الذي كان شاهدًا بالأمس على لحظة من لحظات عديدة منذ سنوات، وأنت تصارع رغبتك في الأكل!

وأنت تحاسب نفسك على ما أكلته، على ما فعلته قبل نومك؛ التقيؤ عمدًا مرارًا وتكرارًا، إلى جانب تلك التمارين القاسية التي تقوم بها جنب السرير، تحاول جاهدًا عدم النظر إلى المرآة، لا تود مشاهدة جسمك!

أنت خائف من مشاهدة ما هو زائد، صورتك ستشعرك بالسوء.

قد تقرّر قبل الخروج من المنزل بأن تتمرن قليلًا، لكي لا تفكر بالدهون التي تملأ جسمك.

وعند دخولك إلى الحمام لقضاء حاجتك، ستنصت لذلك الصوت المعتاد قبل استعدادك للخروج منه، الذي هو أعلى من صوت معدتك، طهّر الآن؛ تتقيأ قليلًا رغم شعورك بالخواء!

الجميع سيلاحظ وجهك المتعب وأنت تسير في أرجاء المكان.

تحاول تجنب النقاش الطويل مع أي أحد، تتجنب آرائهم التي تعتقد بأنها غير حقيقية، وأسئلتهم المزعجة؛ «لماذا صحتك غير جيدة؟ هل تأكل؟ وجهك شاحب جدًا يا صديقي!»

تهتم فقط لتقليل صوت معدتك المزعج «أحتاج للأكل، أطعمني» وتلبي رغبتها بالكثير من السوائل (الماء / المشروبات الغازية).

تود المشي لأميال طويلة، حتى لا تشعر بتأنيب الضمير، تحتاج بأن تحرق السعرات الحرارية التي أنت أساسًا تفتقدها طيلة أيامك الماضية!

رغم ذلك تستمر بالمشي.

تود التركيز بوقت محاضراتك العلمية، والمشاركة مع الآخرين للحصول على درجات عالية؛ ولكن لا تستطيع.

وهذا سيصبح هاجسًا كبيرًا، وطريقة جيّدة لتجنب الأكل وأنت في المنزل؛ تخبرك والدتك: «تعال، حان وقت الغداء» وأنت تتعذر بالمذاكرة، وتنغمس فيها؛ لكي لا يكون هناك مجالًا للتفكير بتناول وجبة قد تثقل كاهلك في المقام الأول؛ ولكي تحصل على درجات ممتازة في المقام الأخير!

بحلول وقت العشاء تستسلم للرغبة الملحّة، لأنين معدتك، وتتناول طبقًا خاصًا من إعدادك، الأكل أصبح مقطّع لقطع صغيرة جدًا، ومحسوبًا بدقة كبيرة.

الشوكة والسكين جاهزة لتكون بين يديك، التي شاهدة على غضبك من نفسك في الكثير من الأيام الماضية، التي جعلتها طريقة لخروج ما تتناوله سريعًا دون أن يظل في معدتك؛ تبدأ بتناول وجبتك الخاصة وأنت تفكر بالكثير من الأرقام، مما يجعلك تشعر بالصداع وعدم الاستمتاع لما هو في صحنك الجميل، تأكل ببطء شديد.

شعور الذنب حاضر حتى في هذه اللحظة.

قد تقوم برمي باقي أكلك أو تخبأه، لكي لا تلاحظ والدتك بأنك لم تأكله كاملًا.

شرب الكثير من الماء لمحاولة إبقاء معدتك صامتة.

يطلبون منك أصدقائك أن تتواصل معهم، أهلك يرغبون بأن تشاركهم اللحظات الخاصة، ولكن سرعان ما تتجه إلى ذلك العذر الدائم؛ سأذهب للاستحمام -في حال انتهائك من عذر المذاكرة أو القراءة-، وأنت في الحمام سيتكرر ذلك المشهد المعتاد، تحاول بأن تخرج كل ما هو في معدتك.

كل ما فعلته لا يكفي؛ رغم شعورك بالإعياء الشديد.

لا توجد طريقة تشعرك بالرضى تمامًا.

شعور الذنب عارم، قد يؤدي إلى إيذاء النفس؛ لإقامة تمارين شاقة مجددًا؛ لوضع خطة جديدة للتهرب من مواجهة صوت معدتك، ورغبتك في تناول الوجبات اليومية.


تعذّب شهيتك، وأنت تعتقد بأنك تهذبها!

ملابسك واسعة، لا تحب النظر إلى جسمك، وقد تشتري ملابس ضيقة في فترات مختلفة، لكي تحفّزك على خسارة المزيد من الوزن.

الميزان صديقك الذي لا تحبه، تتواصل معه يوميًا بدافع الاطمئنان، ولكنه لا يحمل أخبار سعيدة قط.

حتى شريط القياس الذي بداخل درجك، تواصلك معه جيد، يلامس خصرك، ويخبرك عن النتيجة التي توصلت لها؛ وأحيانًا قد لا يسعدك هو أيضًا.

ذكرياتك الجيدة مع المرآة في الماضي، تبدأ تصبح كابوس وبصورة سيئة للغاية، تشعرك بالقبح والثقل.


هذه ليست مجرد سطور!

بل إنها مشاعر قاسية وأفكار ثقيلة عند من يعاني «الأنوركسيا».

في المستقبل، سأكتب أكثر عن هذا الجانب.

إلى ذلك الحين؛ أرجوك لا تقسو على نفسك.